تحرير مذاهب العلماء في مراعاة اختلاف المطالع الأهلة
"مطلع" (بفتح اللام وكسرها) موضع الطلوع والظهور وقد جاء في قصة ذي القرنين قوله تعالى:
{حَتّى إذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} (الكهف: 90) وأريد منها منتهى الأرض المعمورة من جهة الشرق.
إن الشمس والقمر والنجوم كلها مسخرات بأمر الله سبحانه، وهي من آيات الله تعالى في الكون.
وإن الشهور القمرية تدور مع طلوع الهلال، فيثبت دخول الشهر برؤية الهلال لأن الله سبحانه قد جعل الأهلة مواقيت للناس، وربط بها مواعيد الصيام والحج يقول الله عز وجل:
{وَيَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 189)
فالصيام ابتداء وانتهاء مرتبط برؤية هلال شهري رمضان وشوال، وكذلك الحج يتحدد تاريخه برؤية هلال شهر ذي الحجة.
يقول الله عز وجل عن الصيام {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) وشهود الشهر لا يتحقق إلا برؤية الهلال، ويقول عن الحج {ألْحَجُّ أشْهُرُ مَّعْلُوْمَاتٌ}. (البقرة: 197)
يقول الإمام فخر الدين الرازي في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ}: إن تقدير الزمان بالشهور، فيه منافع بعضها متصل بالدين، وبعضها بالدنيا.
أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة، منها: الصوم، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ} (البقرة: 185)
وثانيها: الحج، قال الله تعالى: {ألْحَجُّ أشْهُرٌ مَّعْلُوْمَاتٌ}. (البقرة: 197)
وثالثها: عدة المتوفى عنها زوجها، قال الله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَّعَشْراً} (البقرة: 234)
رابعها: النذور التي تتعلق بالأوقات، ولفضائل الصوم أيام لا يعلم إلا بالأهلة.
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد، ومدة الحمل، والرضاع كما قال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُوْنَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) وغيرها.
فكل ذلك لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر[1]
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا الرؤية"[2]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين يوما"[3]
وعن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال فقال: "إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا"[4]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له"[5]
وفي حديث آخر يقول: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعا وعشرين،ومرة ثلاثين"[6]
وعن جبلة بن سحيم قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا وهكذا، وخنس الإبهام في الثالثة".
هذه وغيرها من الأحاديث تدل دلالة واضحة وصريحة على أن الصيام ابتداء وانتهاء مرتبط برؤية الهلال، أو ثبوته شرعا.
والرؤية هي المعاينة والمشاهدة بالعين الباصرة بعد غروب الشمس، اليوم التاسع والعشرين من الشهر السابق، ممن يعتمد خبره، وتقبل شهادته، فيثبت دخول الشهر برؤيته.
أما "اختلاف المطالع" فهو تعبير يستخدمه الفقهاء، ويريدون به موضع طلوع الهلال في جهة المغرب، حيث أن الهلال يرى في أول الشهر، أكثر من يوم على إختلاف البلاد والأمصار فيشاهده الناس في بلد في وقت، ويشاهدونه في غيره في وقت آخر، وهذا هو "اختلاف المطالع" فاختلاف المطالع أمر لا مجال لإنكاره لأنه أمر واقع ملموس ومشاهد، ثم هو إما يكون باختلاف المسافة أو الإقليم، وإما يكون باعتبار التشريق والتغريب.
فالحاصل أن علماء الأمة مجمعون على أن الشهور القمرية تثبت برؤية الهلال حقيقة، أو حكما، لكنهم مختلفون فيما بينهم إذا ثبتت الرؤية في بلد هل تلزم هذه الرؤية سائر المسلمين أولا تلزمهم اعتبارا لاختلاف المطالع؟
ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول عند الشافعية إلى عدم اعتبار اختلاف المطالع في إثبات شهر رمضان، فإذا ثبت رؤية هلال رمضان في بلد لزم الصوم جميع المسلمين في جميع البلاد، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته" وهو خطاب للأمة كافة، والأصح عند الشافعية اعتبار اختلاف المطالع[7]، وقد صرحت بذلك كتب المذاهب الأربعة.
ففي نيل المآرب من كتب الحنابلة:
يجب صوم رمضان برؤية هلاله‘ على جميع الناس، وحكم من لم يره حكم من رآه ولو اختلفت المطالع[8]
وفي الروض المربع:
إذا رآه أهل بلد أي متى ثبتت رؤيته ببلد، لزم الناس كلهم الصوم لقوله عليه السلام:
"صوموا لرؤيته" وهو خطاب للأمة كافة فإن رآه جماعة ببلد ثم سافروا لبلد بعيد فلم ير الهلال به في آخر الشهر أفطروا[9]
كذلك في الشرح الكبير للدردير من كتب المالكية:
0 komentar:
Posting Komentar